mulk ve hilafet kitabinin arapcaya tercumesi

مقدمة

تناولنا في دراستنا هذه المشكلة الأكثر أهمية في التاريخ الإسلامي، وهي “التغير” ) Tegayyür )

الذي طرأ على القوى الروحية للإسلام أثناء تشكله ا في هيئة مؤسسا ت. لقد نُشر حتى الآن العديد م ن

الأعمال حول التاريخ الإسلامي بالأسلوب التاريخي الكلاسيكي المعتاد. ومع ذلك، فإن التاريخ يشب ه

الأحلام: فالمؤرخ لا ينقل م ا يراه، بل هو مضطر لنقل ما كتبه الآخرون بعد قراءته وتصنيفه؛ أم ا

المعلومات التاريخية فمن المحتم أن تظل ناقصة دوما؛ً أي أننا، تمام اً كم ا في الحلم، حين ننق ل

المعلومات التاريخية لا تطأ أقدامنا أرض اً صلبة، ونضطر لملء الكثير من الفراغات عبر نشاطن ا

الذهني. ومن الممكن للشخص الذي يفسر حلمه أن يخطئ كما يمكنه أن يصيب. وفي أغلب الأحيان ،

يعيش المؤرخ المتخصص في موضوع تاريخي معين فقط، أثناء رحلته بين المسالك المتداخلة

والمعقدة للمعلومات التاريخية، في أجواء مختلفة تمام اً عما هي عليه في الحقيقة، تمام اً كالإنسا ن

الذي يرى حلم ا.ً وكما قال هيرقليطس، فإن حقيق ة الأشياء والزمان هي “التغير”: فالمؤرخ لا يمكن ه

أن يحكي لإنسان عصره بعض الحوادث التي جرت في العصور الماضية كمجرد سرد حكائي، دو ن

إقامة أي صلة مع “الوضع الراهن” ) Status quo ( اليوم؛ ولو فعل ذلك، لكان أمر اً عديم الفائدة

وعبث ا.ً

إن القيام بشرح الحوادث التاريخية وتفسيرها، مع الأخذ بعين الاعتبار غالب ا آثارها وأهميتها بالنسب ة

لحوادث اليوم، و…

9

بدلا م ن محاول ة شرح معناها، يتخذ المؤرخون المختصون موقف اً يتمثل في إحالة هذه المهمة إلى

شخص آخر -الاكتفا ء بجم ع ونش ر هذه الوثائق م ن أجل فلاسفة التاري خ المستقبليي ن الذين سيأتو ن

لاحق اً لتركيب وتفسي ر كافة المعلوما ت البشرية-. إ ن صعوب ة تناول وتركيب المعلوما ت والحوادث

البشرية التي توسعت بشكل هائل في عصرنا، م ع مراعاة وجهات النظر المختلفة لمختل ف

التخصصات، قد تجعل هذا الموقف يبدو محق ا.ً ومع ذلك، وبما أن القارئ لا يملك الكفاية الفلسفي ة

والمنهجية لتقييم المعلومات التاريخية بنفسه )حتى وإن بُسّطت للغاية من قبل المؤرخ(، فإن هذا

النوع من “الوثائقية التاريخية” المنشورة ليتم تقييمها من قبل فلاسفة التاريخ المستقبليي ن لا تعو د

بفائدة كبيرة.

ولهذا السبب، نقوم بنشر هذا التأويل لما اكتسبناه من خبرة حتى يومنا هذا في موضوع التاري خ

الإسلامي )الذي يهدف إلى التحليل والتفسير من أجل القارئ، وبالأخ ص التفكير في مشاكل العالم

الإسلامي اليوم في ضوء هذا التفسير التاريخي(. لقد أردنا تلبية الاحتياج في هذا المجال قدر

المستطاع، من خلال تقديم إضافة مختلفة لمؤلفات التاريخ الإسلامي، مفسرة من منظور فلسف ة

التاريخ. وبه التوفيق..

10

أولا.ً مقدمة: التاريخ، المنهجية وفلسفة التاريخ

“بسم الله. ن، والقلم وما يسطرون!”

)ن، قسم اً بالقلم وما يسطرون!(

القرآن الكريم؛ القلم: 1

إن التاريخ عبارة عن حكاي ة لبعض الحوادث التي وقعت في العصور الماضية. وفي الأصل، تعن ي

كلمة “تاريخ” سوا ء في اللغات الغربية أو في لغتنا، تصنيف الحوادث وفق تسلسل زمن ي

)كرونولوجي(. ¹ إن تصنيف الحوادث، ولا سيما الحوادث التاريخية، هو أمر يبعث على الضجر إلى

حد ما. فكتابة التاريخ بمعناها الكلاسيكي، لا تزيد عن كونها صيغة تُعرض فيها المعلومات المستقا ة

من بعض الوثائق بعد إخضاعها لنوع من التصنيف. ومن المعروف أن هذا الطراز من الأعمال ليس

مفيد اً كثيراً؛ ولهذا السبب، يُشبَّه التاريخ بأنه “أكثر قليلا مما يقوله كاتب لكاتب آخر”. وهذا “القليل

الزائد” إنما يتمثل في إخضا ع المؤرخ للحوادث لتصنيف جديد م ن تلقا ء نفسه، ومحاولته تفسي ر

وقوع بعض الحوادث استناد ا إلى حوادث سبقتها. إن المؤرخين المتخصصين في عصرنا لا يعرفو ن

التخصصات الأخرى جيداً؛ ومن هذا المنطلق، فهم لا يمتلكون معرفة جيدة بالمنطق والفلسفة؛ ولهذ ا

السبب، فإن كون بعض الحوادث قد جرت قبل غيرها…

 

¹ )لا يوجد نص للحاشية في الصفحة الأصلية التي أدرجتها، ولكن سأبقي الترقيم ملتزم ا بوجوده في

المتن كما طلبت(.

11

لا يدركون أنه لا يمكن استيفاء شرط “الضرورة والكفاية” ) necessary and sufficient reason ( من الناحية الفلسفية من أجل إقامة رابطة علّية تجعل من هذه الحوادث أسباب اً للحوادث

اللاحقة. وهكذا، يظهر نص تاريخي يظن صاحبه أنه يكتفي بالوصف الموضوعي للحوادث )أي أنه

لا يمارس التأويل أو فلسفة التاريخ(؛ بينما هو في واقع الأمر نص مليء بتأويلات ساذج ة. وعلاو ة

على ذلك، وبسبب ظن المؤرخين المحدثين أن بإمكانهم تقديم تاريخ “حديث” و”موضوعي”

و”علمي” عبر إجراء بع ض التصنيفات الخاص ة به م )بشكل يختلف عن أسلوب الحكي الملون للغاي ة

الذي اتسمت به روايات وأساطير المؤرخين القدامى(، فإننا نواجه نصوص اً تاريخية مملة إلى حد

بعيد.

وفق اً لفهمنا، فإ ن التاريخ والعلم والفن والفلسفة ه ي تخصصات مختلفة تماماً؛ و لا يمك ن للتاري خ أ ن

يكون “علم اً”. أما فلسفة التاريخ فهي نمط من التفكر يتخذ صفة التركيب بي ن كل هذه التخصصات.

إن زوايا النظر في هذه التخصصات مختلف ة جد اً: فإذا ذكرناها بالترتيب؛ التاريخ هو النظر إلى

الماضي ) retrospectare (؛ العلم هو النظر إلى المستقبل ) prospectare (؛ الفن ه و النظر إلى

الداخل ) introspectare (؛ الفلسفة تنتمي إلى التفكر والبحث ) inspectare (؛ أما فلسفة التاريخ

فهي زاوية النظر التي تنتمي إلى الرؤية العامة الشامل ة والتفكر التركيبي ) conspectare (. وبتعبير

آخر، وفق اً لهذا التصنيف، فإن التاريخ يعادل الذاكرة، والعلم يعادل الذكاء، والفن يعادل الإلها م

الباطني، والفلسفة تعادل القوة المفكرة )التفكر(، وفلسفة التاريخ تعادل الفكر التركيبي الذي يحتويه ا

جميع ا.ً وعند إجراء مثل هذا التصنيف المعرفي )الإبستمولوجي( للتخصصات، يتم تحديد ما يمك ن

وما لا يمك ن لكل منها فعله ، إضاف ة إلى موضوع ه ومنهج ه. ومن أجل التمكن من صياغة فلسف ة

التاريخ )أي تفسير معنى ومدلول الحوادث التي وقعت حتى يومنا هذا(، يجب أولا امتلاك معرف ة

واضحة وجوهرية حول ماهية ومنهج التاريخ، ثم التخصصات الأخرى. ² وم ن ناحية أخرى، فإ ن

عدم قدرة المؤرخين -حتى أولئك الذين لا يدعون أنهم فلاسفة تاريخ- على العدول عن تقديم التفسيرات

قدر الإمكان )حتى وإن لم يدرك هو ذلك وادعى عكسه(، يظهر أن التاريخ…

2

. لمزيد من الإيضاحا ت الواسعة حول هذا الموضوع، انظر: ش. أوتشار، “الشعر والمعرفة”

( Şiir ve Marifet (، مجلة العلم والفن، إسطنبول، فبراير 1991 . انظر أيض اً: ش. أوتشار ،

“نقد النقود” ) Tenkitlerin Tenkidi (، مجلة الثقافة الوطنية، يونيو 1991 .

12

إن لم تُص غ فلسفة التاريخ )أو تأويله(؛ فإ ن ركام المعلومات حول الحوادث التاريخية يتحول إلى

فوضى )كاوس( لا فائدة منه ا. وبما أ ن النظم التأملية ) Speculative systems ( قد فقدت بريقه ا

بعض الشيء في عصرنا، فإن فلسفة التاريخ النقدية ) Critical philosophy of history ،)

أي المنهجية )فلسفة المنهج(، هي الأكثر رواج ا.ً ولا حاجة للقول إن الشروع في ممارسة فلسف ة

التاريخ دون معرف ة جيد ة بمنهجي ة التاريخ ل ن يكون موقف ا صائب ا.ً ³ ومع ذلك، فإ ن نقاشا ت المنهجي ة

الحديثة حول تخصص التاريخ في تركي ا -والتي ظهرت في ألمانيا بعد الحرب العالمية الأولى

وانتشرت منها- ليست معروفة جيد اً. ⁴ وبالإضافة إلى ذلك، فإن ممارسة فلسفة التاريخ، إذا ما

أُخذت الصعوبات الكامنة في طبيعة العمل بعين الاعتبار، هي أمر غاية في الصعوبة، ولكنه في

الوقت نفس ه الأمر الأكثر أهمية والأكثر احتياج ا إليه؛ لأنه بدون القيام بذلك، لا يمكن فه م الميراث

الثقافي والحوادث القادمة من الماضي. وبسبب عدم إقبال الأكاديميين على مثل هذا الأمر نظر اً

لصعوباته، فإ ن ضرورة تفسير التاريخ تدفع المثقفين الأتراك الآخرين، أي الأشخاص الذي ن

ليسوا مؤرخين محترفين بالمهنة، إلى الاضطرار لممارسة فلسف ة التاريخ. وم ن الطبيعي ألا تلب ي

هذه التفسيرات التاريخية التي تتم بأسلوب “الهواة” الاحتياج المطلوب، كونها تتم دون امتلا ك

معرفة تاريخية رصينة، وبالاعتماد فقط على مصادر معلومات من الدرجة الثانية استقاها ونقله ا

مؤرخون آخرون بأسلوب استدلال غير رصين أساس اً )ودون امتلاك معرفة جوهرية حت ى

بمنهجية التاريخ(.

إن دراسة المنهجية التي تبحث في ماهية المعلومات التاريخية والجوانب الإشكالية لهذه المعلوما ت

وأساليب الشرح وطرق حلها، والتي تتخذ صفة النقد لممارسة التأريخ )أي الأساليب المستخدمة في

التاريخ( وليس للتاريخ نفسه، هي دراسة يجب على الراغبين في ممارسة فلسفة التاريخ القيام به ا

حتماً؛ فالمنهجي ة هي “الشرط الذي لا غنى عنه” ) Sine qua non ( لفلسف ة التاريخ. وفي الواقع،

يمكننا القول إن “فيلسوف التاريخ يجب أن يكون قد طور منهجيته الخاصة”. ومنذ أمد بعيد…

3

. حول هذا الموضوع انظر: ش. أوتشار، “مسألة المنهج في البحوث التاريخية” ) Tarih Araştırmalarında Metot Meselesi (، مجلة الثقافة الوطنية، فبراير 1991 .

4

. حول هذا الموضوع انظر: ش. أوتشار، “الفكر التاريخي والتعليم في تركيا الحديثة”

( Historical Thought and Education in Modern Turkey (، ورقة بحثي ة

مقدمة إلى المؤتمر الدولي العاشر للتاريخ.

13

بسبب قيامنا بدراسات تأويلية )تأملية/سبكولاتيف( ⁵ ونقدية )منهجية( في آن واحد، فإن دراستنا هذه

حول التاريخ الإسلام ي -وهو مجال تخصصنا- قد كانت هي الأخرى مستلهمة من مثل هذا الفه م

للتاريخ. إن موقف الدين الإسلامي تجاه المؤسسات السياسية منذ يوم ظهوره، وتعبيره عن رؤيت ه

المعنوية من خلال تجسيدها وتجزيئها في المؤسسات الثقافية )وهو نوع من مشرو ع

الاغتراب/الاستلاب alienation (، ونشوء مفاهيم وتفسيرات مختلفة للإسلام، أي المذاهب، نتيج ة

للاختلافات الاقتصادية والسياسية التي أفرزها القصور في هذا الصدد؛ هي عملية ) Process ( بدأت

منذ عصر الخلفاء الراشدين الأربعة، وتصلبت اعتبار اً من القرن الثاني واستمرت حتى يومنا هذا.

وهي لا تزال حتى اليوم العائق الأكبر أمام وحدة العالم الإسلامي ونجاحه. وفيما يتعلق بهذه المشكل ة

الجوهرية ) Fundamental (، فإنن ا نعتقد أن مؤرخي التاريخ الإسلامي والمستشرقي ن الذين ليسو ا

فلاسفة تاريخ عادةً، والذين لا يملكون عتاد اً معرفي اً في التخصصات الأخرى سوى كونهم مؤرخي ن

متخصصي ن فحسب فيم ا يخ ص تقنيات الاستدلال والبحث )بالمعنى المنهجي( التي يستندو ن إليه ا

عند إعمال الفكر؛ قد توصلوا إلى نتائج خاطئة إلى حد بعيد. لهذا السبب، كان من الضروري وضع

بعض الملاحظات المنهجية وأقسام تمهيدية في بداية كل فصل من فصول هذه الدراسة حول أكثر

قضايا التاريخ الإسلامي جدية، للإشارة إلى مشكلات المنهج )خاصة فيما يتعلق بالقضايا التي

تناولناه ا في ذلك الفصل(. لقد أردنا تقديم تفسير تاريخ ي يستند إلى معرفتنا التخصصي ة حول الكيفي ة

التي تشكلت بها المؤسسات الإسلامية، منذ ظهور الإسلام وحتى الوقت الذي أصبح فيه يزيد خليفة ،

حيث انعدم تمام اً احتمال وجود حل للمشكلات المتعلقة بالخلافة )مأسسة الدولة بالمعنى الإسلامي(.

ومن الطبيعي ألا تصل مثل هذه التفسيرات التاريخية إلى نتائج رصينة تمام اً إذا ما استندت إلى

معطيات )بيانات/ Data ( مأخوذة من أعمال متخصصين آخرين لا يُعرف كيف توصلوا إلى

معلوماتهم ونتائجهم، بدلا من الاعتماد على المعرفة التخصصية الذاتية. ومع ذلك، فإن القيام بتفسي ر

التاريخ بعد نقد منهجي دقيق )التمحيص الشديد(، يؤدي في النتيجة إلى…

5

. نُشرت خلاصة لفلسفتنا الخاصة بالتاريخ )بالأسلوب التأملي/السبكولاتيف(. انظر: ش.

أوتشار، “الأنماط والاتجاهات في التاريخ” ) Patterns and Trends in History ،)

مجلة الآداب بجامعة سلجوق، العدد 3 ، 1986 ، قونية.

14

قد يفتح هذا الطريق أيض اً أمام مناقشة المشكلا ت التي تنتم ي في الحقيق ة إلى يومنا هذا استناد اً إلى

تفسير التاريخ، واتخاذ المعطيات التاريخية مجرد وسيلة للتفكر الفلسفي. وبما أن إشكالية المنه ج

( Methodological problematic ( موجودة بالفعل هنا في بداية كل فصل )لا سيما فيما يتعل ق

بذلك الفصل، ومن خلال سرد الأحكام المنهجية التي تم التوصل إليها فقط نظر ا لاختصارها الشديد (،

فإننا لم نفرد قسم اً منفصلا للمنهجية. إن ما قلناه حتى هذه النقطة حول التاريخ، ومنهجية التاريخ ،

وفلسفة التاريخ، كا ف لتوضيح صعوبة المسائل. وكما قيل: “فهم من فهم.. ومن لم يذق لم يعلم”.

والتقييم بعد ذلك يعود للقارئ؛ لقد أدينا واجبنا: والحمد __________لله صاحب المكارم…

15

)…(

16

ثانياًا . المسألة الأكثر أهمية للإسلام اليوم: تأويل التاريخ الإسلاميً

“نستلهم الإلهام مباشرة من القرآن

ونجعل الإسلام ينطق بلسان إدراك العصر.”

من كتاب “صفحات”، محمد عاك ف

لماذا لا يمتلك العالم الإسلامي اليوم مكانة تتناسب م ع الجغرافيا التي يشغلها وعدد السكان الذي

يمتلكه؟ يمكن الإجابة ببساطة على سؤال: لماذا لا يلعب المسلمون دور اً أكثر أهمية في الحيا ة

السياسية والمدنية للبشري ة اليوم؟ بأن “العالم الإسلامي يتكون من مجتم ع الدول المتخلفة”. وبم ا أ ن

الدول الغربية هي التي تقود عالم اليوم، فيمكن الزعم بأن الحضارة الإسلامية قد خرجت مهزوم ة

من صراعها مع الحضارة الغربية. وإذا كان هناك نصيب م ن الحقيق ة في هذا التشخيص، فنح ن

مضطرون للتفكير في أسبابه. ويمكن القول أيض ا إنه من ذ ظهور وتطور الثقافة الصناعية في الغرب،

فكّر المثقفون المسلمون بهذا الشكل تقريباً، ورأوا أنفسهم الطرف المهزوم في الصراع مع الغرب.

وبغض النظر عن نوع التأمل ) Spekulasyaon ( الذي سيتم إجراؤه حول الأسباب، فإن المثقف

المسلم اليوم مضطر لإعادة تقييم الإسلام في ظل ظروف اليوم، والتفكير في “الحال المأساوي”

للعالم الإسلامي وفي مستقبل ه. وهذا هو بالفعل ما يحاول المثقفون المسلمو ن القيام ب ه. ونحن أيضاً ،

)نشرنا هذا العمل( لنقدم تأويلا للتاريخ الإسلامي يأخذ بعين الاعتبار الظروف الحديثة أيض اً…

17

إن تقديم المسائل وفق اً لهذا المنظور أو ذاك سيتغير بحسب الحوادث التي يراها المثقف مهمة م ن

وجهة نظره وحسب ترتيب الأهمية الذي وضعه. إن فه م الوضع الراهن للعالم الإسلامي يتطلب في

الوقت نفسه فهم التطور التاريخي الذي مر به حتى يومنا هذا، والقدرة على إعادة تفسير التاريخ

الإسلامي بمستوى تفرضه ظروف اليوم. وهذا أمر لا يمكن تحقيقه إلا بشرط بناء فلسفة للتاريخ دو ن

الوقوع تحت تأثير الإطار الذي تمليه الرؤية الإسلامية للعالم، وإخضاع التاريخ الإسلامي لتقيي م

موضوعي ضمن هذا الفهم التاريخي.

علاوة على ذلك، لا ينبغي للمثق ف المسلم أبد اً أن ينسى أنه مضطر لإدخال ليس فق ط التطورات

الحاصلة حتى اليوم في هذا الحساب، بل والوضع الراهن وكيف سيكون حال الإسلام والبشري ة ف ي

المستقبل أيض ا.ً وفي مواجهة كل ما قيل، هنا ك ضرورة لتفسير الإسلام م ن جديد باستخدام عقولن ا

نحن، وليس كتابعين لأفكار الآخرين. بيد أن هذا يشكل عبئ ا ثقيلا لا يمكن للمثقف المتوسط أن يحمله.

في الجوهر، هل حياة التفكر هذه هي الأهم، أم عودة المجتمعات الإسلامية إلى الحياة الإسلامية؟

يمثل هذا السؤال نموذج اً لترتيب الأهمية والأولويات الذي قد يتغير وفق اً للمنظورات المختلفة التي

عرضناها. وسأكتفي بالإجابة على هذا السؤال من وجهة نظري كالتالي: عندم ا ننظر إلى التاريخ

الإسلامي، نرى أن العنصر الذي حرك المسلمين الأوائل ومن ح الجماهير الحماس الذي جعل الإسلام

دين اً عالمياً، هو الأيدلوجية الإسلامية؛ ولكن هذه الأيدلوجية، أي المثالية الإسلامي ة التي بلغها النبي،

تختلف تمام ا عن نظريات اللاهوت )الإلهيات( المصاغ ة بدقة في القرون اللاحقة. ففي وضع الإسلا م

في تلك الأزمان، كان الأساس هو تعلم الإسلام وعيشه أكثر من الانشغال بمسائل الثيولوجيا أ و

اللاهوت. والواقع أنه بينما كان الإسلام يتحول إلى إمبراطورية كبرى، نرى أن المسلمين بدأوا في

إجراء تأملات ) Spekülasyonlar ( حول ماهية التبليغ الإسلامي منذ عهد الخلفاء الأوائل، نتيج ة

للمسائل والخلافات السياسية. وهذا يعني أن ما حرك الجماهير ليس حياة تفكر عالية ومصاغة؛ ب ل

إن الموقف الراديكالي والمتعصب كان ه و العنصر المحرك لكل الثورات التاريخية. فالجماهير لا

تفهم شيئ اً م ن التأملات الفلسفية عالي ة المستوى، وفي الأصل لا يمتلك هذا النوع م ن التفكر عنص ر

الحماس الذي يحرك الجماهير. ومن الممكن اليوم تقييم موقف العديد من الجماعات الإسلامي ة

الراديكالية على أنه “تعصب” ) Fanatizm ( إذا ما نُظر إليه من الخارج؛ ولكن، سيكون من العب ث

انتظار نجاح أيدلوجي ة ما إذا لم تك ن تحمل مثل هذا التعصب وعنصر الحماس. ومن ناحية أخرى،

ومع قبول فائدة التعص ب كعنصر محرك ومثير للحماس، يجب علين ا أن نقبل إعاد ة إحيا ء التفك ر

الديني في الإسلام ليس كمجرد أمنية -كما تمنى محمد إقبال ذات يوم- بل كضرورة أيض ا.ً وفي حا ل

إحياء الحياة الإسلامية وعودة كتل شعبية عريضة إلى حياة إسلامية حماسية، فإن مثل هذا التفكر

سيولد من تلقاء نفسه على كل حال.

إن عودة كتل شعبية كبيرة إلى الحياة الإسلامية واستعادة القوى الروحية للإسلام لحيويتها التي تحر ك

الجماهير من جديد، هي بلا شك حادثة ستتمخض عن نتائج تاريخية مهمة جد ا.ً ومع ذلك، من حي ث

مستوى التفكر الإسلامي، لا يمكن القول إن ه قد تم طرح أفكار جوهرية وشامل ة إذا ما قورن ت بالتفك ر

الإسلامي القديم. إن المثقفين المسلمين يواجهون مشكلات أكبر من تلك التي واجهها المسلمو ن

الفاتحون ذات يوم، وهم يجدون صعوبة في إيجاد حلو ل لهذه المشكلات. ما نوع الأفكار التي يمك ن

إنتاجها من المثليات الإسلامية فيما يخص مشكلات العالم الحديث؟ وكيف يمكن عيش حياة إسلامي ة

في ظل الظروف التي نحياها، وماذا نقصد بنم ط الحياة عندما نقول “حيا ة إسلامية”؟ في هذا الوضع،

هل يشكل الانغلاق على الذات وتكوين كومونات )تجمعات( وأحياء إسلامية -كما تفعل بع ض

الجماعات الإسلامية- حلاً؟ عندم ا نفكر بعمق، نرى أن ه لا يكفي أ ن تصب ح المثليات الإسلامية أكث ر

تأثير اً على الجماهير ؛ بل هناك ضرورة لأن يطرح الإسلام برام ج جديدة مع أخذ ظروف الحيا ة

الحديثة بنظر الاعتبار: وهذا الأمر ممكن أولا بشرط أن ينبعث التفكر الإسلامي بشكل أكثر جوهري ة

وشمولا .

18 – 19

لا يمكن للمثقفين المسلمين، أمام تحدي الغرب، أن يتجاهلوا التفوق التقني للحضارة الغربية. إ ن

اللجوء إلى القيم الإسلامية عبر إنكار وجود الغرب ومحاولة عيش نموذج إسلامي “عريق”

لا يمكن أن يكون موقف اً صائب ا.ً وهناك أسباب تدفع للاعتقاد بأن مثل هذا الموقف قد )Arkaik(

طُرح في بعض الدول الإسلامية. إن تجاهل الغرب ورفضه تمام اً قد اعتبره “توينبي” ذات يوم –

بتشبيه النعام ة التي تدفن رأسها في الرمل- بمثاب ة “رد فعل لإنكار الواقع”. ومن ناحي ة أخرى، فإ ن

المؤلف نفسه قد فسر رد الفعل القائم على تقليد الغرب من أجل مواجهته بأسلحت ه )مثل حرك ة التحدي ث

في تركيا( على أنه أسلوب سلوكي محكوم عليه بالبقا ء دون نتيج ة. وإذا قبلنا بأن هناك نصيب اً م ن

الحقيقة في أفكار هذا المؤلف، فسيبرز السؤال التالي: “بما أن التحديث عن طريق التغريب ورف ض

الميراث ليس حلاً، ولا الانغلا ق على الذات حل، فما هو الموقف الذي يجب على المثقفين المسلمي ن

تبنيه؟”. إن اعتبار الحضارة الإسلامية منزهة عن ك ل نقص وتفسير تراجع الإسلام في القرون

الأخيرة بأسبا ب خارجية محض -وه و موقف يقدس التقاليد الإسلامية التاريخية بشكل ما- لا يمك ن

أن يكون موقف اً سليم ا.ً سيكون من السذاجة بمكان الاعتقاد بأن المثليات الإسلامية التي طرحها النب ي

قد انتقلت كما هي دون أن تتعرض لأي تغيير عبر التاريخ )من قبل التقاليد التاريخية للمجموع ة

الإسلامية التي ننتمي إليها(. لقد أثرت الضرورات التاريخية بشكل كبير على الإسلام كما أثرت عل ى

جميع الأديان، وأحدثت تغييرات كبيرة في المثليات الإسلامية خلال مغامرتها التي دامت 14 قرن ا.ً

ولم يقل “إقبال” في إحدى قصائده عبث اً: “لو رأى جبريل أو رأى النبي كيف يفهم مسلمو اليوم

الإسلام، لأصابتهم الدهشة”.

وعلى الرغم من وجود علماء الإسلام الذين يريدون الحفاظ على التقاليد القائمة، فإن وجود مثقفي ن

مسلمين يريدون العودة إلى المصادر الأصيلة للإسلام ومحاولة فهمه كما كان يفهمه المسلمو ن

الأوائل هو حادث يستحق الاهتمام. إ ن مدى تمثيل التقاليد الإسلامي ة -التي تشكل ت وتطور ت عب ر

التاريخ وصولا إلى يومنا هذا- لحقيقة الإسلام، هو مسألة يجب التفكير فيها بجدية. ويمكن التعبي ر

عن ذلك بسؤال: “أ ي إسلام؟”. إن ذكر بيت شعري ل “محمد عاكف” -الذي تأثر بأفكار شخصيا ت

مثل جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وناقش العلما ء في هذا الصدد في أواخر العهد العثماني-

سيوضح المسألة: “يجب أن نستلهم الإلهام مباشرة من القرآن، ونجعل الإسلام ينطق بلسان إدراك

العصر”. ومع قبولي الشخصي لهذه الفكرة، سأطرح هنا مسألة أخرى: أين هو العالم المسلم الذي

سيستلهم الإلهام مباشرة من القرآن ويعيد تفسير الإسلام من جديد ويجعله ينطق بلسان إدراك العصر؟

أي، لا ننسى أ ن فهم القرآن والإسلام يتجاوز بكثير قدرات المثقف المتوسط. لقد ناقش عاك ف

وأصدقاؤه كثير اً في وقت ما مسألة: “هل باب الاجتهاد مغلق أم مفتوح؟”. وقد ذكر “حيدر أفندي

الكبير” في عمل ه المسمى “أصول الفقه”، أثنا ء مناقشته لهذه المسألة، مستخف ا بالخصائ ص التي يعده ا

“الملاّت” كأوصاف يجب توفره ا في المجتهد، أن ه لا حاجة أبد اً لمعرفة كل هذه الأشياء؛ وأن معرف ة

اللغة العربية بالقدر الذي يسمح بفهم القرآن هي مستوى كا ف للقيام بالاجتهاد. وعندما آخذ “مقدمات”

حيدر أفندي بعين الاعتبار فإني أتفق معه؛ ولكن، سيكون من السذاجة أيض اً الظن بأ ن كل من ه ب

ودب يمكنه أن يتناول القرآن ويعيد تقييمه من جديد ويفهمه بمستوى رفيع. سيكون من الخط أ

الاستخفاف بالمسائل التي واجهها علماء المسلمون سابق اً وباللاهوت )الثيولوجيا( الذي وضعوه

للإجابة عليها؛ ففي اعتقادي، إذا ما قورن مستوى التفكر اليوم في العالم الإسلامي بما كان عليه ف ي

ذلك الوقت، فإنه يقدم مشهد اً بائس اً وضئيلا للغاية. وك ل من لديه إلمام بالعلوم الإسلامية سيقر بهذا

الأمر. ومع ذلك، وكما ذكرنا أعلاه، فإن المشكلات التي نواجهه ا اليوم مختلفة تمام اً وأكثر شمو لاً

مما واجهه علماء الإسلام القدامى. وأخشى أن الاكتفاء بالفكر الذي وضعه العلماء القدامى واعتبار

ذلك المستوى كافي اً عند تقديم الإسلام كبديل لنمط الحياة وفهمها للبشرية اليوم، سيضع المثقفي ن

المسلمين في وضع مضحك نوع ا ما.

هذا يعني أن هناك ضرورة لتقديم مستوى أعلى حتى من التفكر الإسلامي القديم. وفي العالم الإسلامي

اليوم…

20 – 21

للأسف لا توجد حياة فكرية بهذا الحجم. ويبدو لنا أن المثقفين المسلمين اليوم يقولون أشياء تفتقر إلى

الثقل الفكري؛ بل إنهم بين الحين والآخر يظنون أنهم يعيدون اكتشاف مسائل نوقشت وحُلت ف ي

العصور القديمة، وذلك لعدم درايتهم بها. إن الشكل الذي تعلمناه عن الإسلام، والذي أملته علينا البيئ ة

التي ولدنا ونشأنا فيه ا وعبر هذه النوعي ة من المؤلفات الإسلامية التي نقرؤها، ه و نتاج تطور

تاريخي. وبصفتي مسلماً، وعلى الرغم من احترامي الشديد لهذه التقاليد التاريخية وكوني شخص ا أفنى حياته في تعلم هذه التقاليد، إلا أنني أود الإشارة إلى أن هناك فروق اً كبيرة جد اً بين هذه التقاليد

وبي ن مثليات النبي. ولكن، عند فحص القرآن ومحاولة فهم رسالة النبي، فإ ن التخلص م ن تأثيرا ت

الظروف والبيئة التي نعيش فيه ا ومحاولة فه م الحقيق ة بشكل موضوعي، ليس بالأمر البسيط كم ا

عبرنا عنه هنا ومررنا عليه.

إن أوسع منظور وأكثر رؤية تسامح اً عُرفت في التاريخ الإسلامي تعود إلى التأويل الذي طورته

زمرة “الصوفية”. بيد أن النزاعات بين الزمر الصوفية وبين علماء السنة والشيعة، كما أن لكل

طرف فيها جوانب محقة ومميزة، فإن لديهما أيض اً أوجه قصور وجوانب غير محقة. لقد فُسرت

المثليات الإسلامية منذ البداية من قبل هاتين الزمرتي ن )الصوفية والعلماء( بشكل مختلف تماماً ،

واستمرت هذه الخلافات عبر التاريخ )رغم النتائج المثمرة للغاية للمجهود الهائل الذي بذله الغزالي

لحل الخلافات بين الصوفية والعلماء(. فكلتا الزمرتين تمتلكان أنظمة لاهوتية )إلهيات( متطورة جد اً

صاغوه ا وفق اً لوجها ت نظرهم الخاص ة. وعند هذ ه النقطة، يغدو من الضروري تكرار سؤال “أي

إسلام؟” مرة أخرى بسبب هذا الاختلاف في التفسير بين هاتين الزمرتين. ⁶

من ناحية أخرى، فإن العالم الإسلامي اليوم ممزق للغاية، وفي حالة من صراعات المصالح، وهو

وسط غريب ومتباين عن بعضه البع ض لدرجة تجعل المثقف المسلم يتردد في مناقشة بعض المسائ ل

الإسلامية حتى وإن كانت تنتمي إلى عصور قديمة جد اً.

6

. للحصول على خلاصة كلاسيكية لهذه الاختلافات، انظر: “الصوفية” ) Sufizm (، ترجمة

شاهين أوتشار عن ه. أ. ر. جيب، مجلة سلجوق ) S.Ü. Selçuk Dergisi (، العدد 2 ،

1988 .

22

إننا نتمنى أن تنبعث حياة التفكر؛ ولكن في مثل هذا الوسط، فإن هذه الأمنية ليست من السهل تحقيقه ا.

ربما يكون رد فعل المسلمين المتمثل في انتظار تغير الأنظمة الحالية أولا من أجل تغيير العالم الذي

يعيشون فيه وإيجاد بديل لحيا ة إسلامية ، هو أمر يملي ه هذا الوسط الموجود في البلدان الإسلامية.

وعلى حد ما يبدو، فإنه حتى لو كانت “السوق الإسلامية المشتركة” وتدريجي اً “اتحاد الدول

الإسلامية” أمر اً قد يتشكل مع مرور الوقت؛ إلا أننا في هذه الأيام نسعى جاهدين للتكامل مع أوروبا

ودخول “المجموعة الاقتصادية الأوروبية” ) AET (.* ربما يكون من الممكن تواجدنا في كل من

المجموعة الاقتصادية الأوروبية وفي مثل هذه السوق الإسلامية المشتركة في آن واحد… ولكن

المسألة الأساسية هي: “كيف تحولت الجماع ة الإسلامية التي أسسه ا النبي إلى نظام سياسي، وه ل

يمثل هذا معنى للبشرية اليوم؟”؛ يجب على المثقفين المسلمين تقديم إجابة على هذا السؤال تأخذ بعي ن

الاعتبار ظروف العالم الحديث أيض اً.

إننا نؤمن بأن مثل هذا النموذج السياسي )كمثال أعلى طرحه النبي(، والذي نعبر عنه بصيغة ” Pax Islamica ” )السلم والوئام الإسلامي(، يمكن طرحه من خلال تأويل حديث للتاريخ الإسلامي.

وكنتيجة، يمكننا القول إن على رأس مشكلات الإسلام اليوم يأتي إجراء محاسبة جوهرية للتاري خ

الإسلامي )أي صياغة فلسفة للتاريخ الإسلامي من أج ل تقديم الإسلام كبديل للعالم الحديث(.

كُتب هذا النص في عام 1990 . )المقصود بها الآن الاتحاد الأوروبي AB )

23

)…(

24

إليك ترجمة الصفحة الخامسة والعشرين من الكتاب ، مع مراعاة الضبط اللغوي للمصطلحات

المنهجية والفلسفية وتنسيق الحواشي كما وردت:

ثالثاًا . ماهية التبليغ الإسلامي ونتائجه السياسيةً

“والله غال ب على أمره”

القرآن الكريم، يوسف: 21

أ. مدخل منهجي

إن نموذج “التفسير الجيني” ) Genetic explanation ( الذي نستخدمه في الشروح التاريخي ة

)وهذا الأسلوب في الشرح عبارة عن سلسلة طويلة نوع اً ما من الحوادث التي أدت إلى وقوع

الحوادث المراد شرحها( هو في الأصل نتيجة للمنهج “التعاقبي” ) Diachronic (* الناشئ ع ن

ضرورة تحديد التسلسل الزمني؛ ويتشكل في بعض الحالات من خلال اجتماع أسلوبي التفسي ر

“العلّي” )تفسير بالأسباب(** و”الغائي”. وكإحدى المشكلات التي يفتح هذا الأسلوب البابً أمامها،ً

فإنه يتضمنً العديد منً الفجوات منً الناحية التاريخية؛ وذلكً بسبب مشكلة التزامنً

( Synchronization (* التي يتم إهمالها أحيان اً رغم وجوب مراعاتها، وبسبب اختيار وتصوي ر

الحوادث التي يعتبرها المؤرخ ذات أهمية فقط أو التي يراها تمتلك قدرة على “التمثيل التاريخي”

أو التي يظن أنه ا لعب ت دور اً في تشكل الحوادث اللاحقة، بد لاً م ن سرد كامل سلسلة الحوادث التي

سبقت الواقعة.

تاريخي، متتابع عبر الزمن.

** التفسير بالأسباب.

*** محاولة إظهار الأهداف والغايات النهائية للحوادث.

**** دراسة الشيء أو الواقعة من حيث نمط عملها ووظيفتها ضمن زمن معين.

25

مثل هذه العيوب. لهذا السبب، تجب الإشارة إلى أن لا الوصف التاريخي ولا التفسير القائم عليه

يمكن أن يكونا كاملين أبد ا.ً ومع ذلك، فإن الذكاء البشري لا يمكنه إدراك سلسلة غير محدودة م ن

الحوادث، ولا يمكن إجراء وصف كامل “تعاقبي” ) Diachronie ( و”تزامني” ) Synchronie ؛ )

وبناءً عليه، نُحذّر مسبق اً من أن الأوصاف والتفسيرات التاريخية التي سنطرحها هنا ستكون ناقص ة

بالضرورة. وفي هذه المحاولة التفسيرية، ورغم كونها غير تامة، ستتم الإشارة فقط إلى بعض

المسائل التي نراها جديرة بالاهتمام.

ولا شك أن جوانب الحوادث التي لم نأخذها بعين الاعتبار قد تكون هي أيض ا ذات أهمية؛ وبالنتيجة ،

فإن هناك احتمالا كبير اً بأ ن تكون التفسيرات والصياغات المطروحة مجرد تصوي ر مبس ط وممنه ج

وغير تا م للحقيقة. ومع ذلك، نود التعبير فور اً عن أنن ا حين نجرؤ على تقديم بعض التفسيرات بنا ء

على معلوماتنا الناقصة، بدلا من الاكتفاء بنقل وتصوير الحوادث بأسلوب علمي محض، فإننا نؤم ن

بضرورة القيام بهذه المحاولة التفسيرية على أمل أن نفتح الباب أمام نقاشات فكرية حول هذه

الحوادث، مما قد يتيح مع الوقت تناول المسائل من جوانب متعددة وجعلها أكثر وضوح ا.ً

إن سبب تقديمنا لهذه المطالعات حول محاذير المنهج التاريخي هو التالي: في إطار هذه الدراسة،

وأثناء محاولتن ا تفسير “ماهية التبليغ الإسلامي ونتائج ه السياسية”، سنحتاج للحديث قليلا عن التقالي د

الزرادشتية واليهودي ة والمسيحية )حتى وإ ن كان ذلك عبر منه ج تعاقبي لا يحتاج لتفاصيل كثير ة

حول تواريخ تطورها ويتضمن فجوات زمنية واسعة( ؛ وذلك لكي نتمكن من إظهار أهمية مفهو م

الزمن التاريخي” الذي نراه في الأديان ذات المنشأ السامي )أو بتعبير أنس ب الاعتقاد بأن الزمن بدأ

بالخلق / وأن هناك نهاية للزمن “إسكاتولوجية”* -القيام ة-(، _______¨8nودور الإنسان في هذه العملية، والاعتقا د

بمجيء “مسيح” أو “مهدي” سيحقق خلاص البشرية.

وكما هو معلوم، هناك في الزرادشتية قوتان متضادتان تديران الكون: ومهمة الإنسان -إذا كان خير ا ويريد النجاة- هي الوقوف بجانب النور، أي الخير، ضد الظلمة، ومحاولة المساعدة في تحقيق سيادت ه

النهائية. “كان زرادشت يدعو مستمعيه -باستخدام السلاح إذا لزم الأمر- إلى محاربة أولئك الذين

يصدقون ويلتزمون بالكذب، أي الأديان الوثنية القديم ة وكل قوى الشر الأخرى. إن مفهوم أهورا

مزدا عند زرادشت مجرد وعلوى:

هو )الإله( فكر هكذا في البدء: ‘ليمتلئ فضا ء الكائنات المقدسة بالنور’، ه و ذاك الذي خلق ‘الحق’

بحكمته.. لقد أدركتك في فكري هكذا، يا مزدا، إنك أول كل شيء )وفي الوقت نفسه( آخره – إنك أبو

الفكر المستقيم والطيب ) Good Thought (، .. وأنت الرب ) Lord ، المولى ( الذي سيحكم على

الأنشطة في الحياة”. ⁷

لكن زرادشت لم يكن يؤمن بأن العالم هو مكان يسود فيه الخير والحقيقة خضوع ا لإرادة أهورا مزدا.

بل على العكس، كان يرى الكون ساحة يجري فيها صراع كوني )على مستوى الكون( بين الخي ر

والشر. إن القوة العملية لموعظة زرادشت كانت تكمن في دعوة الناس ليكونوا “رجال قضية” للخير،

وأن يعيشوا بالطريقة التي تبلغهم بها الأرواح الملائكية )عالم الملكوت( -التي خلقها مزدا لتكون

عون اً له في حربه ضد الكذب-“. ⁸

وعلى الرغم من عدم وضوح مدى تأثر العقائد اليهودية بالزرادشتية، إلا أنه يمكن التحدث ع ن

تأثيرات مباشرة فيما يخص الإيما ن بالملائكة، والاعتقاد بأن الخير سيحقق نصر اً نهائي اً في نهاي ة

الزمان بالمعنى الإسكاتولوجي.

من ناحية أخرى، فإ ن التشابهات بين الاعتقاد ب “المسيح” في التقليد اليهودي والمسيحي وبين م ا

يقابله في الإسلام وهو الاعتقاد ب “المهدي”، هي أيض ا جديرة بالاهتمام. وكما هو معلوم، كان اليهود

يؤمنون بأن “مسيح اً” سيأتي ليخلصهم من سيادة الأقوام الغريبة ويعيد تأسيس مملكة يهودا القديمة.

كلمة مسي ح تعني الممسوح بالزيت، أو الذي دُلك جسده بالزيت، حيث كا ن ملوك يهودا عند ارتقائه م

العرش وفق اً للتقاليد اليهودية القديمة…

الاعتقاد بأن يوم القيامة الذي سينتهي فيه الزمن قريب.

7

. Yasna; 31: 7-8 .

8

. W. H. McNeill, The Rise of the West, Chicago Univ. Press, 1963, s. 169 .

26 – 27

المسح بالزيت وفقًا للتقاليد اليهودية القديمة، فقد أُطلق هذا الوصف على “ملك يهودي مستقبلي”

سيعيد تأسي س مملكة يهودا. أما المسيحيون ، فقد نسبوا صفة “المسيح” المستمد ة م ن التقليد اليهودي

إلى السيد عيسى، معبرين بذلك عن اعتقادهم بأن المنقذ الذي انتظره اليهود لقرون هو السيد عيسى.

وفي الأصل، فإن كلمة “مسيحي” ) Christian ( مشتقة من كلمة “كريستوس” ) Christos (، وهي

الترجمة اليونانية لكلمة مسي ح.*

وعلى الرغم من عدم وجود شيء عن “المهدي” في القرآن الكريم، إلا أن اعتقاد المهدي الذي شاع

عبر الأحاديث يعد لافتًا للانتباه من هذا المنظور: حيث سيأتي “مهدي” قبل قيام الساعة ليضم ن

النصر النهائي للإسلام ليشمل الأرض قاطبة. ومما يلفت الانتباه أيضًا أن هذا المهدي سيكون هو

عيسى المسيح. ومسألة كيفية انتقال هذا الاعتقاد من اليهود والمسيحيين إلى المسلمين هي بالنسبة لنا

مسألة ثانوية؛ فليس من الضروري الجزم بوجود انتقال مباشر في هذا الصدد. إن الجانب الأكثر

أهمية في المسألة -في تقديرنا- هو الدور الذي يسنده هذا الاعتقاد للإنسان في عملية الصراع بين

الخير والشر.

إن المشكلة اللاهوتية الجوهرية التي تُروى بتعبيرات رمزية في كل هذه الأديان، هي الاختيار الذي

سيتخذه الإنسان بين الخير والشر، ومسؤولية توجي ه التاريخ كنتيجة لهذا الاختيار، والمساعدة ف ي

تحقيق “الحاكمية الإلهية” على الأرض. هذا الفهم للتاريخ هو الذي دفع القديس أوغسطين لكتاب ة

كتابه “مدينة الله” ) The City of God (، وهو من حيث الجوهر يحمل الماهية ذاتها في جمي ع

الأديان المذكورة. أي المساعدة باختياراتن ا في إقام ة السلطنة الإلهية قبل نهاية الزما ن )القيامة/ يو م

الحساب(، رغم أن هذه الهيمنة الإلهية ستتحقق على كل حال كضرورة نهائية…

إن هذا الفهم للزمن، الذي يمكن إرجاع أصله إلى التقاليد الزرادشتية القديمة، هو الذي أدى إلى تشكل

الفهم “المسياني” )الخلاصي( في الأديان السامية؛ ووجد له صدى حتى في الإسلام على شكل عقيدة

المهدي”. أما تقييم “أ. ج. توينبي” ) A. J. Toynbee ( –في تفسيره الذي تعرض لنقد لاذع من قِب ل

جب” ) Gibb (- لاعتقاد المهدي، لدى الشيعة كما لدى اليهود، على أنه “أمل في تحقق نجا ح

تاريخي في تاريخ غير محدد في المستقبل، كاستجابة )رد فعل( لإخفاقات استمرت لقرون”، فإنه لا

يفسر واقعة وجود هذا الاعتقاد نفسه لدى السنة أيضًا. ⁹ من ناحية أخرى، فإن عبارة “البارقليط”

( Paraclitos (، وهي صفة للشخص الذي بشر عيسى في الأناجيل بمجيئه من بعده، قد فُسر ت

وتُرجمت بأشكال عديدة، وادعى المسلمون أنها تتضمن المعنى الموجود في اسم محمد أو أحمد.

والادعاء ذاته فُسر من قِبل أتباع الديانة المانوية على أن هذا المنقذ المستقبلي هو “ماني”؛ تمامًا كم ا

آمن المسيحيون بأن عيسى هو المسيح الذي انتظره اليهود لقرون.

بعد تلخيص “قضية إنقاذ العالم” هذه، كواحدة من المشكلات المكنونة في المسائل اللاهوتية، أو د

الإشارة إلى مشكلة أخرى يجب البحث فيها والتفكر مليًا حولها، وهي: ما نوع العلاقة بين أفكار نب ي

ما وبين تأثيرات الوسط الثقافي الذي عاش فيه؟ وإذا طبقنا هذه المسأل ة على الإسلام، فكيف يمكنن ا

تعريف موقف النبي محمد؟

ب. الوسط الجتماعي الذي جرى فيه التبليغ الإسلامي

ولد النبي محمد في مكة، التي وصفه ا القرآن الكريم ب “وادي غير ذي زرع”. ونري د أن نتناو ل

بخصوصية وأهمية بعض ظروف المكا ن والزمان الذي ولد فيه، وبعض خصائص رسالته، ظنًا من ا

أنها قد ترشدنا في فهم الحوادث اللاحقة. إنها لَبديهي ة تاريخية أن أي موضوع لاهوتي أ و فلسفي يمتلك

دائمًا أساسًا سياسيًا واجتماعيًا، بل إن المسائل ذات الماهية السياسية والاجتماعية في الأصل لا تعد و

في كثير م ن الأحيان كونها انعكاسً ا وتعبير ا في المجال الفكري. لقد كانت العلاقات بين الدين والسياس ة

دائمًا وثيق ة ومتشابكة؛ أم ا الإسلام، فبما أن ه استحال لاحقًا إلى شكل “دولة”، فإنه يمتلك خصائ ص

جديرة بالاهتمام خاصة من حيث كون علاقاته بالسياس ة مباشرة ودون وسائط.

باللاتينية ‘ Jesus Christus ’: عيسى المسيح.

9

. A. J. Tonybee, A Study of History, c. 3, s. 463, New York 1962 .

حول “الملاحظة” ) note ( التي كتبها “جب” لتوينبي بشأن المسألة الشيعية، انظر المجلد

الأول من العمل ذاته ص 400 .

28 – 29

تستند التعميمات التاريخية إلى تحليل الحوادث وتفسيرها؛ ومع ذلك، فإن بعض التعميمات التي تكتف ي

بالنظر إلى الخطوط العامة للحوادث والتعبير عن المشهد بجمل أحكام قصيرة، تحمل في طياته ا

خطر إظهار أمور لا وجود له ا في التاريخ وكأنها موجودة، أو خطر عكس وجهات النظر الخاص ة

بالعصر الذي ينتم ي إليه المؤرخ على التاريخ ، وذلك بسبب تفكيره بمصطلحات العالم الفكري

الخاص بعصره والتعبير عن الحوادث التاريخية بهذه المصطلحات. وبما أن التعميمات التي تُبن ى

استناد ا إلى مجرد تشابه في الخطوط العامة ستؤدي إلى أحكام خاطئة نوع ا ما بسبب الخصائص التي

جرى إهمالها، فإن الأحكام اللاحقة المستمدة منها ستكون خاطئة أيض ا.ً فعلى سبيل المثال، مصطل ح

الثيوقراطية الإسلامية” هو مصطلح لا ينطبق جيد اً على الموضوع. وبالمثل، فإن تصوير النبي –

كما فعل “فيلهاوزن”- كشخص حرك القوى الخفية لصحوة وانتشار قومي عربي، وأسس بالنتيج ة

دولة عربية قومية”، لا يبدو إلا خط أ ناتج ا عن عكس الفهم القومي الشعبي في عصرنا على التاريخ.

إن لم نحاول فهم “جماعة المؤمنين” التي أسسها النبي بشكل صحيح وضمن ظروف عصرها، فإ ن

فهمنا للإجراءات السياسية لهذه الجماعة وللطبيعة المعقدة للحوادث التي ظهرت بعد وفاة النبي

سيصبح صعب اً بطبيعة الحال.

لم يكن هناك نظام “دولة” بالمعنى الذي نفهمه اليوم في المجتمع الذي ولد فيه النبي. إ ن وص ف

المجلس الذي ذُكر في القرآن باسم “الملأ” بأنه “أوليغارشية تجارية” سيكون وقوع اً في الخط أ

المذكور أعلاه؛ نعم، كان هناك مجلس كهذا يتألف من رؤساء العائلات المتنفذة والتجار الأغنياء ،

ولكن يجب عدم الخلط بين هذا وبين نماذج “الدولة التي تمتلك مؤسسات وقوانين منظمة ووسائ ل

تنفيذ” بالمعنى الذي نفهمه.

وكما يقول “برنارد لويس”: “لقد ترك قريش حياة البداوة منذ عهد قريب جداً، وكان القرشي لا يزال

مرتبط اً بالمثالية البدوية، أي أن ه كان يريد أقصى قدر من حرية الحركة وأدنى قدر م ن الحاكمية.

وهذه الحاكمي ة كان يمارسه ا ‘الملأ’، وهو المعادل المدني لمجلس القبيلة في المدينة. كان الملأ يتكو ن

من أشخاص معتبرين ورؤساء عائلات اختيروا لمكانتهم وثرواتهم. وكانت حاكميته معنوية مح ض

وتستند إلى القدرة على الإقناع. أما الأساس الحقيقي للوحدة فكان التضامن الطبقي للتجار. وهذا

التضامن يظهر جلي اً في الصراع ضد محمد”. ¹⁰ باختصار، لم يكن نظام المجتمع في مكة يمتلك أي

وسيلة قانونية أو قسرية سوى قدرة أعضاء الملأ على الإقناع.

لم يكن لدى العرب نظام مستقل يعمل كقدرة حاكم ة متمثلة في جيش متمأسس ومنفصل ع ن

المجتمع، وجهاز عدالة، وبنية إدارية، أي لم تكن هنا ك ‘دولة’. وإذا جاز استخدام مصطلح الدولة،

فإن هذه الدولة لم تكن مؤسسة ولا بلداً، بل كانت مجرد تجمّع.”*

وعلى ذلك، لم تكن هناك دولة في الحقيقة، بل مجرد مجتمع ) Kollektivum (. وبدلا من

التنظيمات والمؤسسات الاصطناعية، كان هناك تشكل )تعضو( نما من تلقاء نفسه؛ ولم يكن هنا ك

موظفو دولة بل فقط رؤساء عائلات وأنساب وقبائل.” ¹¹ في الواقع، تمتلك طريقة الحياة البدوية أيض ا عُرف اً وتقاليد شفهية يجب اتباعها وفق اً لنظامها الخاص. ووفق اً لتعبير “ابن خلدون”، كانت هنا ك

عصبية”، أي نوع من الاعتقاد المستند إلى قرابة الدم وقانون القبيلة؛ وفي حال قُتل أحد أفراد قبيلة

ما، كان على جميع أفراد قبيلته أخذ ثأره من القاتل نفسه أو من أي فرد ينتمي إلى قبيلته؛ فالمسؤوليا ت

الفردية كان ت تستحيل إلى مسؤولية قبيلة. وبم ا أن أي جريم ة كانت ستؤدي إلى ثارات دموية لا تنته ي

بين القبائل، فقد كان هناك تحا ش لسفك الدماء قدر الإمكان؛ وكا ن هذا الخوف هو العنصر الوحيد

الذي يحد من الفوضى في المجتمع لدرجة ما. وعلى الرغم من أن قبيلة قريش كانت تعيش حيا ة

حضرية مستقرة في مكة، إلا أنها كانت تمام اً مثل البدو في موضوع الإيمان بوحدة الدم، أي

العصبية”. أي أن نوع اً من النظام المحدود بقانون العرف الطبيعي، أو بالأحرى “اللانظام”، كان

هو السمة الأبرز لهذا المجتمع.

إن الشروط التي كانت تضمن تضامن الجماعة في القبيلة البدوية كانت تتمثل في صعوبات حيا ة

الصحراء ورابطة الدم. وكانت القبيلة تؤم ن عيشها عب ر الرعي، وعبر نه ب السكان المستقرين ف ي

الجوار، وقوافل التجارة المارة من الصحراء، وأحيان اً عبر نهب بعضهم البعض…

10

. برنارد لويس، “العرب في التاريخ”، إسطنبول 1979 ، ص 34 .

)هنا يقتبس المؤلف نص اً ثانوي اً يُعرف الدولة بالمعنى البسيط للكلمة(.

11

. ج. فيلهاوزن، “الدولة العربية وسقوطها”، إسطنبول 1963 ، ص… )النص منقطع

في آخر الصفحة(.

……………………………………………………………………………….

30 – 31

ويمكن القول إن الظروف الطبيعية كان ت تجبرهم على العيش بهذه الطريقة. وبالرغم من أ ن القبائ ل

كانت تبذل جهدها لعدم سفك الدماء قدر الإمكان، إلا أنها كانت تنهب بعضها البعض بشكل متكرر ،

وبذلك كانت أموال المناطق المستقرة تنتشر حتى المناطق الداخلية من الصحراء نتيجة لعمليا ت

النهب المتتابعة.

لقد كانت “الغزوة” )الغارة( عنصر اً أساسي اً في حياة البدو. ويقول الشاعر “القطامي” الذي ينتم ي

إلى العصر الأموي الأول: “نغير على منازل الذباب، وأحيان اً إذا لم نجد أحد اً غيرهم، نغير على

إخواننا من بني بكر”. هذه هي نمط حياة البدوي: سرقة الإبل، واختطاف النساء والأطفال في كثير

من الأحيان ، والسرقة من أي شخ ص يصادفه ويفضل أن يكو ن م ن قبيلة معادية؛ وفي الوقت نفس ه

الحرص على سفك أقل قدر ممكن من الدماء لكي لا تظهر ثارات دموية. إن الحصول على الفدية

مقابل المختطفين والعيش على الغنائم هو نمط الحياة المثالي للبدوي. وبما أن هدف الرحلة قد يكون

بعيد ا جداً، فإن الأشخاص والحيوانات المشاركين في مثل هذه الرحلة كانوا يعانون آلام ا شديدة. وكا ن

من الضروري التحرك بسرعة فائقة بعد النهب للإفلات من المطاردين. وحتى لو استعاد المطاردو ن

أموالهم وأسراهم المختطفين، فقد كان من الممكن دائم ا أن يتعرضوا لخسائر نتيجة هلاك دوابهم م ن

شدة الإجهاد )وقد كانت الخيول العربية الشهيرة تُربى خصيص اً لاستخدامها في هذه الغارات(. هذه

هي العادات التي تفسر قدرة الجيوش العربية على التحرك بسرعة استثنائية أثناء حروبهم مع بيزنطة.

كان رئيس القبيلة “الأول بين أقرانه” ) Primus inter pares (، ولم تكن وظيفتُه وراثية من حي ث

المبدأ. إن تضامن القبيل ة والمسؤولي ة التي تتعهد بها تجاه كل فرد من أفرادها كان ت تُلزم الرؤساء

بمهمة انضباطية من نوع ما. وإذا لم تُرِد القبيلة قبول عواقب فع ل قام به أحد أفرادها، أو إذا ارتكب

الفرد جريمة ضد العشيرة، فإن ه يُطرد منها. وإذا لم يستطع هذا الفرد تأمي ن حماي ة قبيل ة أخرى، فإن ه

سيهلك حتم اً في ظل ظروف الصحراء القاسية. لهذا السبب، كان على الجميع حماية مصالح قبيلت ه

بكل قوتهم، حتى وإ ن كان ذلك على شكل تعص ب أعم ى. ومع ذلك، فإ ن الدور الإداري لشيخ القبيلة

يظل محدوداً؛ فالشيخ لم يكن يملك أي قوة قسرية على قبيلته، وكان يتحرك وفق اً لرغبة الرأي العام

أكثر من كونه قائد اً يوجه القبيل ة. وكنتيجة طبيعي ة لنم ط الحياة هذا، كان العرب غريبي ن عن فكر ة

الطاعة لأي سلطة، وكانوا فرديين إلى أقصى حد.

32

وعلى الرغم من عبادة أصنام متعددة بين العرب، إلا أن الصنم الخاص بكل قبيلة كان مجموع اً ف ي

مكان بمكة يسمى “الكعبة”. ولهذا السبب، كانت الكعبة تمتلك هوية موقع حج مقدس. وكانت الحياة

التجارية حيوية جداً، خاصة خلال الأشهر الحرم التي تُعتبر مقدسة. وفي موسم الحج، كانت تُقا م

أسواق )مناخات( متنوعة حول مكة، وكان البدو القادمون لزيارة الكعبة يتبادلون التجارة في هذه

الأسواق. ومن الواضح مدى ارتباط النشاط التجاري في الجزيرة العربية بموسم الحج ذي الأشهر

الأربعة، حيث تسود التقاليد الوثنية ويُحرم سفك الدماء.

وعلى الرغم من أنه لا ش ك في أن التجار المتنفذين والأغنياء لن يفضلوا اعتقاد “وحدة الدم” ولا تل ك

الأصنام التي لا تحص ى على مصالحهم التجارية ، إلا أ ن هذا يظل العامل الأهم في معارضته م لعقيد ة

التوحيد” التي جاء بها النبي محمد.

هكذا قام النبي محمد بتأسيس نظام يجمع مختلف “العشائر” ) Klans ( حول مثال أعلى واحد، وذلك

عبر جلب “وحدة الاعتقاد” إلى مجتمع تسوده مثل هذه الفوضى. وإذا آمن بعض الناس بنبي ما، فإ ن

تنظيم سلوكياتهم وفق ا لأوامر ذلك النبي هو النتيجة الطبيعية لهذا الإيمان. وعندما يُقال “ثيوقراطية” ،

يُفهم منها نظام تُسند فيه قوة وسلطة المؤسسات السياسية إلى “الله”. ولكن، هناك فرق بين وض ع

يفسر فيه مل ك أو طبقة كهنوتية إرادة الله المتعلقة بالمسائل الدنيوية وتوضع موضع التطبيق عب ر

بعض المؤسسات، وبين وضع يتمثل في تطبيقِ نبيّ لذلك. وإذا استُخدم تعبير “بول تيليش” ) Paul Tillich (، أحد لاهوتيي وفلاسفة عصرنا، فإنه سيكون من الأصح تعريف هذا “النظام النبوي” بأن ه

شكل من النظام “الثيونومي” ) Theonomous (؛ أي أننا أمام “حالة ثقافية كلية، يقدرها ويديره ا

الله بنفسه ، وتتقدم فيه ا السلطة والقوة في المجتم ع على كل أشكال التنظي م القانوني والاجتماعي”.

وفي هذه الحالة، بما أن جميع المؤسسات تتجسد في شخص النبي، فلا توجد ضرورة لأشكال التنظيم

القانوني أو الاجتماعي أو الثيوقراطي للسلطة…

33

لا وجود ]لمؤسسات[. فكل المؤسسات قد أُلغيت، وهناك مصدر وحيد للسلطة والقوة يهيمن على

جماعة المؤمنين؛ وهو النبي الذي يمثل سلطة الله. إن استخدام مصطلح “الثيوقراطية” لوصف شكل

النظام الذي جاء به النبي نفسه، قد يؤدي بنا إلى إغفال فرق جوهري له أهمية كبيرة في فهم الحوادث

السياسية التي تلت عصر النبي. لهذا السبب، يجب دراسة خصائص النظام الإداري الأصيل للإسلام

دراسة جيدة، وهي الخصائص التي نؤمن أنها تختلف عن مفهوم الثيوقراطية المعتاد، رغم ما مر ب ه

هذا النظام من تحولات عبر التاريخ. ذلك لأن هذا الأمر يحوز أهمية كبيرة توازي قدرته على تحدي د

زاوية نظرنا إلى عناصر القوة والضعف في السياسة الداخلية والخارجية للنظام الإسلامي.

لا شك أن النظام الذي جاء به النبي كان نظام ا يُؤمن في ه بسيادة الإرادة الإلهية. ولكن هذا ليس نظام اً

بالمعنى القانوني، أي ليس دولة، بل هو نظام ديني. لقد كا ن ]النبي[ نبي اً مشرّعاً، ولكنه لم يمار س

صلاحياته ضمن نظام قانوني قائم، بل مارسها دون ه. لم تكن سلطته قانونية: بل كانت دينية بالنسب ة

للمؤمنين، وسياسية فقط بالنسبة للآخرين. أي أن سلطة النبي على المؤمنين، رغم أن لها نتائ ج

سياسية، إلا أنها ديني ة بذاتها وليست سياسية. لم تكن هناك دولة ثيوقراطي ة )باسم الله وفق ا للشكل الذي

توضحه المؤسسات الإدارية(، بل كانت هناك جماعة )باسم الله مباشرة/ Theonomous ( يديره ا

النبي الذي هو أداة الوحي الإلهي. وفقط كنتائج طبيعية، تظهر بعض الحوادث السياسية. لم تكن هنا ك

منظمة اصطناعية، ولا موظفو دولة، ولا حتى جيش مستقل ع ن المجتمع. لم يكن النبي يعي ن موظفي ن

معيني ن لوظائف شتى، بل كان يستحد ث وظائف ينسح ب أصحابها من تلقاء أنفسهم بعد أدائها. لم يأ ت

النبي بمؤسسة تطبق سلطته على المؤمنين بتدابير قسرية؛ بل كان يقنعهم فقط بصلاحياته التي لا

حدود لها؛ لأن المؤمنين يؤمنون، بطبيعة الحال، بأن إرادة الله تصل إليهم مباشرة عبر الوحي الذي

ينزل على النبي. وهم يطيعونه طوع اً بسب ب إيمانهم، دون وجود أي مؤسسة إكراهي ة. وإذا استلزم

الأمر أن تحارب جماعة المؤمنين الأعداء، فإن جميع المؤمنين يشكلون جيش ا.ً باختصار، لم يك ن

هناك هيكل سياسي يجمع جماعة المؤمنين بخلاف الإيمان، أي لا توجد ميكانيكية دولة، كما لم تك ن

موجودة قبل الإسلام، وكذلك لم توجد في عهد النبي. التغيير يكمن في حلول “وحدة الإيمان” مح ل

اعتقاد “وحدة الدم” بين القبائل.

34

كان النبي يطر ح نظام اً اجتماعي اً جديد اً أو أسس بني ة المجتمع؛ ولكنه لم يك ن يودع السلطة ف ي

مؤسسا ت اجتماعية معينة، بل كان يحصرها في القرآن فقط. والشعار الخارجي الشهير هو آية مقتبس ة

من القرآن الكريم: “لا حُ كمَ إلّا لِِلَّ “*؛ أي لا حق لأحد في الحكم سوى الله. بل إن النبي نفسه كا ن

يُعتبر مقيد اً بحكم القرآن: “ما كانَ لِبَشَ ر أَ ن يُ ؤتِيَه اللَّّ الكِتابَ والحُ كمَ والن بُوَّة ثُمَّ يَقُولَ لِلنّاسِ كُونُو ا

عِباد اً لِي مِ ن دُونِ اللَّّ ولَكِ ن كُونُوا رَبّانِيِّينَ بِما كُ نتُ م تُعَلِّمُونَ الكِتابَ وبِما كُ نتُ م تَد رُسُونَ ” )آل عمران

79 (. أي أنه يجب عبودية الله وحده لا أي سلطة أخرى.

في شكل هذا النظام الذي لا تمتلك مؤسسات سياسية، توجد بطبيعة الحال سلطة حاصلة بسبب الإيما ن

بالنبي؛ ولكن النبي لا يوصي بأي سلطة أو مؤسسة شرعية، أي أنه لا يعي ن لنفس ه خلف ا.ً إ ن سلط ة

القرآن التي تعبر عن الإرادة الإلهية قد استُودعت لدى جميع المسلمين. وإذا لزم الأمر، يمك ن

للمسلمين انتخاب أحدهم ليكون قائد ا سياسي ا لهم، وبالفعل فإن مؤسسة الخلافة قد وُجدت بهذه الصورة

كنتيجة لضرورة ظهرت عقب وفاة النبي. لم يترك النبي سلطة تحكم المؤمنين مكانه سوى القرآن،

ولم يعين خليفة، ولم يوصِ بتأسيس شورى أو أي مؤسسة أخرى. هذه هي المعلومات التاريخية الت ي

وصلت إلينا. إن صلاحي ة وحق تفسير وتطبيق القانو ن الإلهي بأي شكل من الأشكال ليست حكر اً

على خليفة، أو طبقة كهنوتية، أو أي مؤسسة ثيوقراطية، بل هي الحق والواجب الأكثر طبيعية لجمي ع

المسلمين. لقد تحولت السلطة إلى “شخصية معنوية” م ن خلال إيداعها كأمانة وميراث مشترك لدى

الجماعة. وأمام هذا الوضع، يختا ر المسلمون لأنفسهم خليفة؛ ولكن يجب على الخليفة أيضاً، مثل ه

مثل أي مؤمن، أن يمتثل للقانون الإلهي؛ والخليفة…

………………………………………

إنِ الحُ كمُ إلّا لِِلَّ .

35__

Scroll to Top